سوريا – أطفال مخيم الهول: يواجهون خطر التحول إلى وقود جديد للعنف والتطرف

شعاع نيوز – وسط الصراعات المستمرة في سوريا، يظل مخيم الهول أحد أكثر الملفات تعقيدًا، خاصة فيما يتعلق بمصير آلاف الأطفال الذين نشأوا داخله، ويزداد تعقيد هذا الملف مع استمرار رفض الدول استقبالهم وإعادة دمجهم في المجتمعات، هؤلاء الأطفال، الذين ولدوا في بيئة حرب واحتجاز، يواجهون خطر التحول إلى وقود جديد لدورات العنف والتطرف، ما لم يتم التدخل العاجل لإنقاذهم. ومع تصاعد المخاوف الأمنية في المنطقة، يبدو أن الآن قد يكون الوقت الأمثل للضغط على الحكومات والمنظمات الدولية للتعامل مع هذه الأزمة الإنسانية. وعليه تسعى هذه الورقة للإجابة عن عدة تساؤلات؛ على رأسها لماذا أطفال مخيم الهول عرضة للتحول نحو التطرف، ولماذا تبرز أهمية معالجة الملف الآن؟
لماذا أطفال الهول عرضة للتطرف؟
إن العوامل التي تجعل أطفال مخيم الهول أكثر عرضة للتطرف ليست مجرد نتيجة مباشرة لتأثير الجماعات الإرهابية، بل هي نتاج بيئة معقدة تتداخل فيها مشاعر الحرمان والظلم مع الحاجة إلى الهوية والانتماء، ويُعدّ الأطفال في مخيم الهول من الفئات الأكثر عرضةً للاستقطاب والتطرف، نتيجة لمزيج معقد من العوامل الاجتماعية والنفسية. فهم يعيشون في بيئة تتسم بالعنف المستمر، والتهميش، وانعدام الفرص التعليمية؛ مما يجعلهم في حالة دائمة من الشعور بالحرمان والإقصاء. لفهم هذه الظاهرة بشكل أعمق، يمكن الجمع بين نظرية الحرمان النسبي وفرضية الإحباط والعدوان؛ إذ يفسر الحرمان النسبي لماذا يشعر هؤلاء الأطفال بالظلم وعدم المساواة، بينما تشرح فرضية الإحباط والعدوان كيف يتحول هذا الشعور إلى سلوك عدواني قد يصل إلى التطرف.
تفترض نظرية الحرمان النسبي أن الأفراد لا يقيسون أوضاعهم بناءً على مستوى معيشتهم، بل من خلال المقارنة بالآخرين أو بما يعتقدون أنهم يستحقونه، وفي حالة أطفال مخيم الهول، فهم يعيشون في ظروف سيئة، حيث تنعدم أبسط مقومات الحياة الكريمة، مثل التعليم والرعاية الصحية، بينما يرون -سواء عبر الإعلام أو من خلال شهادات القادمين من الخارج- أن أقرانهم في أماكن أخرى يحظون بفرص أفضل، هذه المقارنة تعزز لديهم الشعور بالظلم والاضطهاد؛ مما يجعلهم يبحثون عن تفسير لمعاناتهم، وهو ما تستغله الجماعات المتطرفة مقدمة نفسها ككيان قادر على تحقيق العدالة المفقود؛ مما يجعل الأطفال أكثر تقبلًا للأيديولوجيات المتشددة التي تصور العنف كوسيلة لاستعادة الحقوق.
لكن الشعور بالحرمان وحده لا يكفي لدفع الأطفال إلى التطرف، وهنا يأتي دور فرضية الإحباط والعدوان، التي تفترض أن الأفراد عندما يواجهون عقبات دائمة تمنعهم من تحقيق أهدافهم أو تحسين أوضاعهم، فإن ذلك يولد لديهم إحباطًا متزايدًا قد يتحول إلى عدوان، ويعزز ذلك العنف المستمر في المخيم، وانعدام الأمل في مستقبل أفضل، وغياب أي بدائل واقعية للخروج من دائرة الفقر والتهميش، كل هذه العوامل تخلق بيئة نفسية مضطربة، تجعل هؤلاء الأطفال أكثر عرضة للانخراط في سلوكيات عدوانية أو تقبل الفكر العنيف، الجماعات المتطرفة تستغل هذا الإحباط؛ حيث تقدم العنف كوسيلة وحيدة للتعبير عن الغضب وتحقيق نوع من السيطرة على واقعهم القاسي.
وتتداخل النظريتان في تفسير كيفية تحول مشاعر الظلم والإقصاء إلى عنف فعلي، فمن ناحية، يشعر الأطفال في المخيم أنهم أقل حظًا مقارنة بالآخرين (الحرمان النسبي)، ومن ناحية أخرى، يجدون أنفسهم في بيئة تُحبط كل محاولاتهم للتحسن أو الهروب من المعاناة (الإحباط والعدوان)؛ مما يجعلهم أكثر تقبلًا للرسائل المتطرفة، التي لا توفر فقط تفسيرًا لمعاناتهم، لكنها تمنحهم وسيلة للتعبير عن غضبهم، حتى لو كان ذلك من خلال العنف.
في سياق آخر يمكن تفسير ميل الأطفال للتطرف لنظرية الهوية الاجتماعية التي تفترض أن الأفراد يسعون إلى بناء هوياتهم من خلال انتمائهم إلى مجموعات توفر لهم الإحساس بالانتماء والأمان، وبما أن الأطفال في مخيم الهول يعيشون في بيئة معزولة عن المجتمع الخارجي، فهم يكونون هوياتهم من خلال المجموعات المتاحة داخل المخيم، التي غالبًا ما تحمل أفكارًا متطرفة، وفي ظل غياب مؤسسات تعليمية قوية أو بدائل تقدم رؤية مختلفة للحياة، تصبح الجماعات المتطرفة الخيار الوحيد المتاح للأطفال لتشكيل هويتهم، كما أن نشأة هؤلاء الأطفال في بيئة تتسم بالعنف، يجعل العنف بالنسبة لهم أمرًا طبيعيًا، بل وربما ضروريًا للبقاء والدفاع عن النفس؛ مما يخلق استعدادًا نفسيًا أكبر لديهم لتقبل الأيديولوجيات التي تبرر العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف.
كما أن الأطفال في مخيم الهول أكثر عرضة للتطرف بسبب البيئة الفكرية والتربوية التي تنشئها أمهاتهم المنتميات لداعش، حيث يتعرضون لعملية تلقين مكثفة منذ الصغر، في ظل غياب أي بدائل تعليمية أو تربوية معتدلة، تتولى الأمهات تعليم أطفالهن أفكار التنظيم المتشددة، مستبدلات التعليم النظامي بمنهجية قائمة على العنف والجهاد؛ مما يعزز في عقولهم رؤية أحادية متطرفة للعالم. وإلى جانب التلقين الفكري، يستخدمن الترهيب العاطفي والتلاعب النفسي لضمان ولاء أطفالهن لأيديولوجية التنظيم؛ حيث يتم إقناعهم بأنهم جزء من “جيش داعش المستقبلي”؛ مما يؤدي إلى ترسيخ الهوية المتطرفة في وجدانهم.
رسومات وألعاب أطفال الهول نافذة على عالمهم النفسي
بالرغم من أن رسومات وألعاب الأطفال عادة ما تستخدم في المجال النفسي كوسائل لإعادة تأهيل الأطفال نفسيًا، ومساعدتهم على التعبير عن مشاعرهم بطرق غير عدائية، فإنها أيضًا يمكن أن تستخدم كأداة للكشف عما لا يتفوه به الأطفال، وتكشف رسومات وألعاب أطفال مخيم الهول عن مدى تأثير البيئة المحيطة بهم على إدراكهم للعالم. وفقًا لتقارير عدة، فإن الألعاب التي يلعبها الأطفال في مخيم الهول غالبًا ما تحاكي القتال، حيث يتقمص الأطفال أدوار مقاتلين أو سجناء؛ مما يدل على مدى تطبيع العنف في حياتهم اليومية، في حين أن الرسومات عادة ما تعكس مشاهد عنف من أسلحة، تفجيرات، وجنود؛ مما يعكس تأثير الصراع والحياة القاسية على خيالهم.
وقد كشفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تقرير لها عن بعض من هذه الرسومات التي تظهر مدى تأثر الأطفال بالبيئة السلبية التي يعيشون فيها، حيث عكست رسومات أحد الأطفال طائرات مقاتلة وأسلحة وصواريخ وأشخاصًا يحترقون، فيما كشفت تقارير أخرى أن أطفال المخيم يقضون وقتهم وهم يلعبون بالسيوف الوهمية والرايات السوداء تقليدًا لمسلحي تنظيم داعش، هذه المؤشرات النفسية تشكل خطرًا حقيقيًا على المدى البعيد؛ حيث تتطور لدى هؤلاء الأطفال أنماط تفكير تجعلهم أكثر قابلية لتبني الفكر المتطرف.
تصاعد الأخطار وتفاقم الأزمة
إن تأجيل حل أزمة أطفال مخيم الهول لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى؛ نظرًا لتزايد الأخطار الأمنية والتغيرات السياسية التي تجعل الوضع أكثر تعقيدًا، ولعل أحد أبرز العوامل التي تجعل التدخل العاجل أمرًا حتميًا هو التراجع الحاد في الدعم الدولي، والذي تزايد بعد قرار إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بوقف المساعدات الإنسانية؛ مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية داخل المخيم، حيث منذ ذلك الحين، أشارت التقارير إلى تزايد أزمة التمويل ونقص الموارد وزيادة صعوبة توفير الاحتياجات الأساسية للأطفال؛ مما قد يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال من قبل الجماعات المتطرفة التي تستغل الحرمان والضعف كأدوات للتجنيد، علاوة على ذلك، فإن استمرار الأزمة دون حل يزيد من احتمالية تحوّل المخيم إلى بؤرة أمنية خطيرة، حيث تؤكد التقارير الاستخباراتية أن تنظيم داعش يسعى لاستغلال الفوضى داخله لإعادة ترتيب صفوفه وتجنيد الأطفال كجيل جديد من المقاتلين.
كما أن التغيرات الإقليمية تزيد أيضًا من تعقيد الأزمة، حيث تؤدي العمليات العسكرية في شمال سوريا، خاصة الهجمات التركية، إلى تهديد استقرار المخيم؛ مما قد يفتح المجال أمام مزيد من الفوضى التي يستغلها المتطرفون لتعزيز نفوذهم. إضافة إلى ذلك فتنظيم داعش رغم الضعف الذي يشهده في الشرق الأوسط، فلا يزال يتمدد خارج حدود المنطقة، إذ تشير تقارير إلى أن التنظيم يركز على التوسع في أفريقيا، وهو ما ظهر بوضوح في عملياتهم الأخيرة في الصومال، حيث كان مُنفذو العملية الأخيرة في ولاية بونتلاند، من 7 جنسيات مُختلفة عربيّة وأفريقيّة (من بينها: اليمن، تونس، المغرب، الجزائر، تنزانيا)؛ مما يشير أن ترك أطفال المخيم دون تدخل عاجل قد يؤدي إلى تصدير الأزمة إلى مناطق أخرى؛ مما يجعل تهديدها عالميًا وليس محليًا فقط.
بناءً على هذه العوامل، يصبح من الواضح أن أي تأخير إضافي في حل أزمة أطفال المخيم لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة؛ مما يجعل الحلول المستقبلية أكثر صعوبة وتعقيدًا. لهذا؛ فإن التحرك الفوري لتوفير الدعم الإنساني، وإعادة تأهيل الأطفال، ووضع استراتيجية واضحة لمستقبلهم، هو أمر ضروري ليس فقط لحمايتهم، ولكن أيضًا للحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي.
استراتيجيات إعادة التأهيل: بين الفصل وإعادة الدمج
في محاولة لحل الأزمة، يتم اقتراح نهج يعتمد على فصل الأطفال عن أمهاتهم وإدخالهم في برامج تأهيلية مكثفة، تشمل الدعم النفسي والتعليم، بهدف إعادة دمجهم في المجتمع وتقليل تأثير الأيديولوجيات المتطرفة التي نشأوا في ظلها، مع ذلك، فإن التعامل مع العلاقة بين الأطفال وأمهاتهم المتطرفات يعد من أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا؛ حيث يثير تساؤلات أخلاقية وأمنية عميقة.
فمن جهة، يرى البعض أن الفصل القسري عن الأمهات قد يُلحق بالأطفال صدمة نفسية عميقة، قد تؤدي إلى نتائج عكسية، مثل شعورهم بالضياع والحرمان؛ مما قد يجعلهم أكثر عرضة للتطرف في المستقبل. ومن جهة أخرى، فإن الإبقاء على الأطفال مع أمهاتهم المتطرفات قد يشكل تهديدًا كبيرًا؛ نظرًا أن هؤلاء الأطفال ينشأون في بيئة معزولة تعزز كراهية المجتمع الخارجي؛ مما قد يرسّخ لديهم هوية جماعية قائمة على الرفض والعداء للآخرين. لذلك، في حال اللجوء إلى الفصل، يجب أن يتم ذلك بطريقة تدريجية ومدروسة، مع توفير بيئات بديلة آمنة مثل مراكز إعادة التأهيل المصممة خصيصى للأطفال العائدين من مناطق الصراع، بحيث توازن بين احتياجاتهم العاطفية ومتطلبات حمايتهم من التأثيرات المتشددة.
لكن لحل تلك المشكلة قد يكون من الأفضل بدلًا من التركيز فقط على فصل الأطفال عن أمهاتهم، تبني نهج أكثر شمولية يشمل، إطلاق برامج تأهيلية للأمهات تساعدهن على التخلص التدريجي من الفكر المتطرف؛ مما يتيح إمكانية بقاء الأطفال معهن داخل بيئة آمنة ومراقبة، وتوفير دعم نفسي واجتماعي للأطفال سواء تم فصلهم عن أمهاتهم أو إبقاؤهم معهن، لضمان عدم تأثرهم سلبيًا بأي من الخيارين، وتبني استراتيجيات دمج تدريجية للأطفال في المجتمع، من خلال برامج تعليمية وتأهيلية تحميهم من الوقوع في براثن التطرف مجددًا.
وقد يكون من المفيد اللجوء لتجارب إعادة التأهيل السابقة التي أثبتت فاعليتها بالفعل، مثل تجربة كازخستان في إعادة تأهيل العائدين من سوريا، التي كانت ضمن جهود الحكومة والمنظمات غير الحكومية لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع، خلال عملية “جوسان” (2019-2021)، أُعيد أكثر من 700 مواطن كازاخستاني، بينهم 188 امرأة وأطفال، العديد منهم شهدوا الحروب عن قرب ويعانون من صدمات نفسية عميقة، وقد شملت تجربة كازخستان نهجًا شاملًا في عملية إعادة التأهيل، حيث تم توفير الوثائق القانونية للأطفال؛ مما ساعد في إصدار شهادات الولادة وضمان حصولهم على المساعدات الاجتماعية. كما تلقى الأطفال رعاية طبية مكثفة،
كما يمكن الاستفادة من تجربة برلين في إعادة تأهيل وإدماج العائدين من مناطق النزاع؛ حيث قدمت نموذجًا شاملًا يجمع بين التحقيق والملاحقة القضائية والدعم النفسي والاجتماعي لضمان اندماجهم في المجتمع بالاعتماد على منسقين متخصصين للإشراف على عملية إعادة الإدماج، مع التركيز على تطوير خطط فردية تراعي الاحتياجات النفسية والتعليمية والمهنية للعائدين، كما شملت الاستراتيجية تعزيز التنسيق بين الجهات الحكومية والأمنية ومنظمات المجتمع المدني، إضافةً إلى إشراك العائلات لضمان نجاح إعادة التأهيل.
ختامًا، تحتاج أزمة أطفال مخيم الهول إلى نهج متعدد الأبعاد، لا يقتصر فقط على الفصل أو الدمج، بل إعادة تأهيل العائلات والأطفال معًا، وتوفير بيئات آمنة وبرامج تعليمية تعيد تشكيل وعي الأطفال بعيدًا عن التطرف. إن أزمة أطفال مخيم الهول لا تقتصر فقط على الجانب الإنساني، بل تحمل تداعيات سياسية وأمنية خطيرة تمتد إلى ما هو أبعد من حدود المخيم، وترك هؤلاء الأطفال دون تدخل فاعل قد يؤدي إلى خلق جيل جديد من المتطرفين يهددون استقرار المنطقة والعالم، ولذلك، فإن معالجة هذا الملف لم تعد خيارًا، بل ضرورة ملحة تفرض نفسها على الأجندات السياسية والأمنية الدولية، ومع تأجيل التحرك لحل الأزمة، وبدون وجود استراتيجيات تأهيل حقيقية سُيترك الباب مفتوحًا أمام تكرار الأزمة في المستقبل.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
بقلم: ياسمين محمود : باحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية