كيف ينجذب الشباب للفكر الجهادي على مواقع التواصل؟
شعاع نيوز – يعتقد البعض أنّ الحركات الإسلامية قد انتهت بعدما سقط بعضها من الحكم وفشل في العودة إليه مرة أخرى بل إلى المشهد برمّته، وبعدما فشل البعض الآخر في تحقيق أهدافه من خلال استخدام العنف والقوة المسلحة، كما يرى البعض أنّ أفكار تلك الحركات قد اندثرت وذهبت بها الريح إلى غير رجعة، وأنّها فقدت بريقها وتأثيرها. ولا شك أنّ تلك الحركات قد تأثرت كثيراً بما تم اتخاذه ضدها من إجراءات ترتب عليها تفكيك قواعدها التنظيمية وإضعاف قدرتها على الاستقطاب والتجنيد بصورة كبيرة، لكن هل تحققت النتيجة نفسها بالنسبة إلى الأفكار؟
على الرغم من التحولات التي حدثت خلال الأعوام الـ (10) الأخيرة في الحالة الدينية، وفي الموقف من الدين الذي تأثر سلباً؛ بسبب تجربة تلك الحركات وما كشفت عنه من عيوب وما ترتب عليها من آثار؛ إلا أنّ العديد من الإحصائيات يشير إلى أنّ نسبة الإقبال على الدين قد ازدادت بين الشباب في الأعوام الأخيرة. وعلى جانب آخر يوجد عدد من الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي لشخصيات مؤثرة يتابعها عشرات الآلاف، بعض تلك الشخصيات ينتمي إلى تنظيمات إسلامية وبعضها لا ينتمي، ولكنّه يحمل الفكر السلفي، ومنها من يتبنّى أفكار التيار الجهادي – مع الإشارة إلى وجود جذور فكرية مشتركة بين كل الحركات والتنظيمات الإسلامية – وتقوم هذه الشخصيات ببث أفكارها عبر العديد من الوسائل وتؤثر في الكثير من المتابعين الذين ينظرون إليها على أنّها المدافعة عن الدين ضد أعدائه. والسؤال هنا هو ما الأثر والنتيجة التي يمكن أن تترتب على تلاقي تلك الرغبة في التدين لدى شريحة متزايدة من الشباب مع وجود فاعلين على وسائل التواصل يقدمون الفكر الديني بهذا الشكل؟ مع الوضع في الاعتبار عدم قدرة المؤسسات الدينية الرسمية على ملء المساحة الدينية وتلبية الطلب على التدين وإشباع الرغبة في ذلك لدى كلّ المقبلين عليه لأسباب مختلفة.
الحالة الدينية للشباب
وفق استطلاع للرأي أجرته شبكة الباروميتر العربي في العام 2022، تبيّن أنّ نسبة المقبلين على التدين، ومن يصفون أنفسهم بالمتدينين، قد ازدادت عن تلك النسبة التي ظهرت من خلال استطلاع سابق للرأي على الفئة نفسها في العام 2018، وتشير دراسة بعنوان “مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” أعدتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية تم خلالها إجراء مقابلات في العام 2016 مع (9) آلاف شخص في (8) دول عربية تتراوح أعمارهم بين (16 – 30) عاماً حول عدد من الموضوعات، منها الموقف من الدين، تشير إلى أنّ نسبة التدين قد ازدادت في هذه الفئة في العام 2016 عن نسبتها في العام 2011، لكنّه تدين يتميز بالفردية، وتقول الدراسة إنّ “الشباب صاروا يعتبرون الدين شأناً خاصاً، ولم يعد الدين بالنسبة إليهم يخدم أغراضاً سياسية أو إيديولوجية؛ بل يركّز بدلاً من ذلك على الرفاهية الشخصية والانضباط الذاتي، ممّا يجعله يبدو كقناة للروحانية، ولم يعد مرتبطاً باليوتوبيا الاجتماعية الجماعية”، وتذكر الدراسة أنّه “تم تسجيل ارتفاع ملحوظ في نسبة التدين في كل الدول التي شملها الاستطلاع”، وتقول: “تشير الأدلة التجريبية المعروضة هنا إلى أنّ الدين يلعب دوراً متزايد الأهمية في الحياة اليومية لشباب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، ويُعلّق الباحث هشام جعفر على هذه الحالة في مقالة له قائلاً: “ما يزال الإسلام لديه القدرة على اجتذاب المنطقة اليوم وفي المستقبل، وما يزال الدين في مصر جزءاً مهمّاً من الحياة العامة في المجالات كافة”، كما تذكر الدراسة في إطار تفسير هذه الحالة أنّه “تبدو الشعبية الحالية للدين والقيم الدينية في أوساط الشباب في العالم العربي نوعاً من البديل عن غياب فرص اجتماعية ومهنية”، وأنّ “التدين يشكّل مصدراً للأمل والتفاؤل”.
ماذا تتضمن تلك الصفحات؟
من بين الشخصيات التي تدير تلك الصفحات من ينتمي إلى تنظيمات إسلامية مثل داعش، ومنهم من ينتمي إلى التيار السلفي التقليدي مثل تيار السلفية العلمية، ومنهم من ينتمي إلى تيار السلفية الجهادية ويحمل أفكاره الخاصة بالموقف من الأنظمة الحاكمة والجاهلية وغيرها، وتعمل تلك الصفحات على ممارسة الدعوة إلى الدين من خلال التركيز على بعض الجوانب الإيمانية والأخلاقية والفقهية عبر عدة وسائل مثل المنشورات المكتوبة والفيديوهات، لكنّها تبث أفكار الحركات الإسلامية من خلال المواد المنشورة مثل الموقف من الآخر سواء غير المسلم أو العلماني أو الغرب، وكذلك الموقف من النظام الحاكم الذي يصل في بعض الأحيان إلى تكفيره، وأيضاً الموقف من المؤسسات الدينية الرسمية ممثلة في الأزهر ودار الإفتاء، حيث تتضمن بعض المنشورات هجوماً حادّاً على هذه المؤسسات، ووصفها بصفات مثل ما يرد على بعض تلك الصفحات من وصف دار الإفتاء بـ “دير الإفتاء” وشيخ الأزهر بـ “بابا الأزهر”، مع ملاحظة ما تحمله تلك التوصيفات من دلالات وما يترتب عليها من ترسيخ صور ذهنية في عقول المتابعين، كما تركز بعض الصفحات على موضوعات خاصة بالعلاقة بين الزوج والزوجة والحديث عن تعظيم مكانة الرجل مقابل المرأة، وترسيخ فكرة الحق المطلق الذي يمثله أصحاب هذا الفكر مقابل الباطل الذي يمثله الآخر الذي يتم الحديث عنه على أنّه المحارب للدين، كما يلاحظ أنّ المتابعين لتلك الصفحات ليسوا جميعاً ينتمون إلى تنظيمات إسلامية أو إلى التيار الإسلامي، ولكن هناك الكثير منهم أفراد عاديون، ويظهر هذا من تعليقاتهم ومن صفحاتهم الشخصية، ويلاحظ وجود استجابة للعديد منهم وتأثر بما يتم نشره من قيم وأفكار، حيث ينظرون إلى تلك الشخصيات على أنّهم المدافعون عن الدين في وجه أعدائه.
بعض تلك الصفحات أيضاً لا يقتصر محتواها فقط على بعض المنشورات والفيديوهات بالصورة التقليدية، لكنّها تعمل على إقامة تواصل مع المتابعين من خلال استنساخ بعض الوسائل التي كانت تمارسها جماعة الإخوان، مثل إقامة لقاءات رياضية ومعسكرات يتم خلالها ترسيخ بعض الأفكار بطرق مختلفة، كما يقوم بعضها بتنظيم دورات لتعليم العلوم الشرعية وتحفيظ القرآن وتناول بعض الموضوعات الاجتماعية من منظور ديني، وربما تكون هذه سياسة تهدف إلى تطوير العمل حتى يكون هناك نوع من التواصل والتفاعل الذي يهدف إلى تكوين مجموعات يتم غرس قيم وأفكار معينة فيها، وإخراج جيل جديد يحمل هذه الأفكار، ليس بالشكل التقليدي للعمل التنظيمي، ولكن بطريقة جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة والسياق السياسي، وأيضاً تتناسب مع طبيعة الشباب الذي تترسخ فيه النزعة الفردانية، والذي لديه رغبة في التدين لكن دون قيود التنظيمات الإسلامية التقليدية، وبذلك تحقق تلك الآليات الجديدة عدة نتائج مجتمعة.
أين تكمن المشكلة؟
لا شكّ أنّ الدين أحد المكونات الرئيسية للهوية في المجتمعات العربية، وأنّ الدين له وظيفة في إنتاج عدد من الضوابط والمعايير التي تساعد المجتمع على الاستقرار، كما أنّه من الممكن أن يكون أحد روافع التقدم إذا كان الفكر الممثل له قادراً على التجدد ومواكبة حركة الاجتماع البشري، لكنّ الأزمة هنا في هذه الحالة هي ذلك التلاقي بين الإقبال على التدين وبين الفكر السلفي والجهادي الذي يعمل على توظيف تلك الطاقات، وفي الوقت نفسه يجد فيه المتعطشون للدين ملاذاً آمناً في ظل غياب بديل أكثر عقلانية، فتجربة الحركات الإسلامية التقليدية قد كشفت عن العديد من العيوب الكامنة في بنيتها الفكرية والنفسية، وكشفت عن الأزمات التي تنتجها في المجتمع بشكل مستمر ومتكرر، وعن مدى التشويه الذي أصاب العقل والروح لدى شريحة كبيرة في المجتمع نتيجة أفكارها وممارساتها، فهذه حركات تتسم بالجمود والماضوية، وترسخ داخل أفرادها والمتأثرين بها ثقافة التعصب الناتجة عن ثنائية الحق المطلق والباطل المطلق، وتخلق مناخاً من الاستقطاب الذي يؤدي إلى عدم استقرار المجتمع، وإلى بقائه في حالة صراع دائم، كما يقف مشروعها عقبة أمام تقدم المجتمع، وتساهم في ترسيخ التطرف، سواء في جانب أفرادها والمتأثرين بها، أو في الرافضين لها الذين يقابلون التطرف بمثله، ليس فقط تجاه تلك الحركات بل تجاه الدين ذاته.
وفي هذا السياق، يعلق الدكتور حمادة شعبان الباحث بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في تصريح لـ”حفريات” قائلاً: “إنّ من سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي استخدامها وسيلة لترويج الفكر المتطرف، وقد رأينا في الأعوام الـ (10) الأخيرة كيف استُخدمت هذه المواقع في استقطاب آلاف الشباب والفتيات وغسل أدمغتهم وضرب هويتهم الوطنية، وإضفاء العنف على القيم الدينية، والدين منها براء، ومن الملاحظ في الأعوام سالفة الذكر انتشار دعاة على مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي لا نعرف هويتهم ولا منابع تعليمهم، ولهم متابعون بالآلاف معظمهم من فئة الشباب، وبعض هؤلاء الدعاة لم يتلقوا أيّ تعليم في المدارس العلمية الأصيلة في عالمنا العربي والإسلامي مثل الأزهر الشريف في مصر، وتمارس بعض هذه الصفحات – عن عمد أو بحسن نية – خطاباً متشدداً ومنفّراً يركّز على قضايا بعينها، ومن يتعرّض لهذا الخطاب بالتحليل، يُصدم أوّلاً بطريقة العرض والطرح، التي هي في حدّ ذاتها قد تؤدي إلى أضرار بالغة تضرّ بالإنسان والأوطان”.
ومن أخطر أنواع المحتوى الذي تركز عليه هذه الصفحات، وفق شعبان، هو العلاقة بين المواطنين المسلمين والمسيحيين، فمعظم هذه الصفحات يقصر العلاقة بين المسلم والمسيحي على التهنئة بأعياد الميلاد، ولا تملّ هذه الصفحات من الحديث عن هذا الموضوع وإثارته في بداية كل عام. والملفت للنظر في طرح هذا الموضوع على تلك الصفحات هو طريقة العرض المنفّرة، التي يتنمّر فيها المتحدث أحياناً على من يهنئون جيرانهم من المسيحيين، ويُطنب في الكلام عن حرمة التهنئة بصورة تنسف الإيمان بالمواطنة والحقوق والحريات، بل واحترام الجيران في نفوس الشباب، مع تجاهل كامل للآثار السلبية التي قد تنجم عن هذا الأمر، ولا شكّ أنّ مثل هذه الأمور تضرّ بمبدأ التعايش والمواطنة الذي هو وفقاً للأزهر الشريف مصطلح أصيل في الإسلام شعت أنواره الأولى من دستور المدينة المنورة، وما تلاه من كتب وعهود للنبي، صلى الله عليه وسلم، يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين.
ولذلك فإنّ استدعاء المواطنة وترسيخها في المجتمع إنّما هو، بحسب الباحث شعبان، استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم طبقه النبي في أول مجتمع إسلامي أسسه، وهو مجتمع المدينة، كما يلفت النظر أيضاً في هذه الصفحات خلوها من الحديث عن القيم الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية مثل التعايش والسلام والتعدد والاختلاف، كما أنّها لا تقدّم أيّ طرح أو رؤية للصورة التي ينبغي أن تكون عليها العلاقة بين المواطنين في المجتمعات التعددية مثل مجتمعنا المصري، وربما لا يعرف هؤلاء أنّ هناك من مسلمي العالم من يُعاني بسبب البعض من معتنقي الأديان الأخرى الذين يحملون أفكارهم نفسها، ويستخدمون أدواتهم نفسها، فماذا لو أنّ جماعات وأحزاب اليمين المتطرف في الغرب آمنت بالمواطنة والتعدد والاختلاف في إطار من التسامح؟ أليس ذلك سيسمح للمحجبات المسلمات على سبيل المثال بالتحرك بحرية في الغرب؟ إنّ بعض أصحاب هذه الصفحات التي نتحدث عنهم لا ينظرون إلّا إلى تحت أقدامهم، ولا يعيرون اهتماماً للمصلحة العامّة التي تفيد المسلمين.