شؤون عربية و دولية

رئيسة الحكومة الفرنسية تعرض أمام البرلمان نهجها للحكم

شعاع نيوز: أولاً المنهج، وثانياً البرنامج: هكذا يمكن توصيف أسلوب رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، التي مثلت، لأول مرة منذ تشكيلها، حكومتها الثانية، بعد ظهر أمس أمام الجمعية الوطنية، ولاحقاً مساء أمام مجلس الشيوخ، لعرض السياسة العامة لحكومتها وخططها الرئيسية للأشهر وربما للسنوات القادمة، وذلك على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية ومالية. ولأن بورن تفتقر للأكثرية المطلقة في البرلمان، فقد كان عليها أن تطرح تصورها وطريقة عملها مع البرلمان الجديد، بعد أن فشلت جهود رأسَي السلطة التنفيذية في اجتذاب نواب من اليمين أو من اليسار لبلوغ الأكثرية المطلقة. من هنا حرصها، منذ بداية كلمتها، على تأكيد أن «الأكثرية النسبية لا تعني (اليوم) ولن تعني أبداً أنها عنوان للعجز». وذكَّرت بورن بأن «الحياة السياسية في فرنسا كانت تعني، لفترات طويلة، وجود كتلتين متواجهتين؛ لكن حان الوقت لنلج الزمن الذي تعمل فيه القوى التي تبني يداً بيد». ولأنها عجزت كما ماكرون، في اجتذاب نواب من هذا الفريق أو ذاك لتشكيل تحالف أو ائتلاف حكومي، فإن ما بقي بمتناول يديها السعي لتوفير الأكثرية المطلوبة لكل مشروع قرار على حدة. وقالت للنواب ما حرفيته: «أنا فخورة ومتحمسة أن أباشر العمل معكم في العمق وتطارح الأفكار، مشروعاً وراء مشروع، وذلك في خدمة الفرنسيين. وسنقوم بصدد كل مادة بمشاورات مكثفة، ونتناول كل نص بروح منفتحة على الحوار والانفتاح والرغبة في التوصل إلى تسويات».

هذا الطرح جديد على البرلمان؛ حيث كان البرلمان السابق في قبضة أكثرية ساحقة تفرض إرادتها ومشاريع قراراتها فرضاً. ولم يخطئ من اعتبر أن السلطة انتقلت، في الشأن التشريعي والقانوني، من القصر الرئاسي إلى تحت قبة البرلمان القادر على التصويت لصالح الحكومة أو ضدها. وستكون التجربة الأولى يوم َ18 الجاري، عندما تبدأ مناقشة مشروع القرار الخاص بالتصدي لغلاء المعيشة، وذلك على وقع إضرابات انطلقت، وأخرى مقررة في عديد من القطاعات، بسبب التضخم الذي بلغ ما يجاور الستة في المائة، حتى نهاية يونيو (حزيران).

بيد أن اللغة الجديدة لرئيسة الحكومة لم تكن كافية لإقناع تحالف اليسار الذي يعد 150 نائباً للتراجع عن طلب التصويت على طرح الثقة بها وبحكومتها.

وتجدر الإشارة إلى أن بورن امتنعت عن طلب التصويت، وهو ما يتيحه لها الدستور محتذية بذلك خطى عشرة رؤساء حكومات في العهود المتعاقبة الذين حكموا من غير طرح الثقة. إلا أن تحالف اليسار اعتبر تصرفاً كهذا تهرباً من المسؤولية واحتقاراً للناخبين، ما دفعهم إلى أن يطلبوا بأنفسهم التصويت على الثقة. لكن بورن تستفيد من انقسامات المعارضة؛ إذ يرفض اليمين بجناحيه، الكلاسيكي المعتدل والمتطرف، الانضمام إلى اليسار، ما سيمكن الحكومة ورئيستها من النجاة من السقوط في اختبار التصويت يوم الجمعة القادم.

ولا شك أن الحكومة ستلعب على انقسام المعارضة، الأمر الذي تأمل منه أن يمكنها من تمرير مشاريع القوانين رغم تمتعها فقط بالأكثرية النسبية. لكن حقيقة الأمر أن بورن ستسلك درباً مليئاً بالأشواك، ليس فقط بسبب افتقادها للأكثرية المطلقة؛ بل بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة. وثمة عناوين عديدة لهذا التدهور الذي يفضي إلى تململ اجتماعي وانطلاق حركة إضرابات عبر البلاد وفي عدة قطاعات. والأول من العناوين: التضخم الذي لم تشهده فرنسا منذ أربعين عاماً، والذي يصيب القدرة الشرائية للشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة. وعنوانه الثاني: ارتفاع الأسعار الكبير الذي يصيب القطاعات الغذائية والتحويلية والصناعية والخدماتية، وعلى رأس ذلك أسعار الطاقة المستهلكة، أكانت الكهرباء أو المشتقات النفطية وعلى رأسها البنزين. من هنا، فإن أول مشروع قانون ستقدمه بورن إلى البرلمان في 18 الجاري، يتناول حزمة من الإجراءات التي تهدف إلى تخفيف عبء الغلاء عن المواطنين. ولذا، فقد اعتبرت أن مهمة حكومتها في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وعودة جائحة «كوفيد» ومتحوراتها إلى الانتشار على نطاق واسع (200 ألف إصابة أول من أمس)، وما ينتج عنها من تبعات على كافة الأصعدة، متعددة؛ إذ عليها حماية الفرنسيين، والدفاع عن الجمهورية، وحماية البيئة، والمحافظة على وحدة المجتمع.

يحتل مشروع مواجهة الغلاء وتبعاته رأس لائحة برنامج عمل الحكومة، وفق ما أكدته بورن. ومنذ ما قبل حلول موعد 18 الجاري، دعت رئيسة الحكومة إلى إيجاد «تسويات»، والعمل معاً للعثور على «حلول وسط» بين المشروع المطروح ومطالب التعديل التي ستطالب بها المعارضة، والتوصل إلى بناء الأكثرية المطلوبة حول كل مشروع قرار على حدة.

ومن أبرز ما جاء في لائحة مشاريعها: رغبة الحكومة في إعادة تأميم شركة كهرباء فرنسا تماماً وكلية، وهو ما تعتبره ضمانة لتمكنها من أن تعزز إمكانياتها وتنفذ مشاريعها الطموحة والضرورية في أقرب الآجال، من أجل مستقبل الطاقة في فرنسا. لكن المرجح أن الرغبة الحكومية تنطلق من الحرص على احتواء ارتفاع أسعار التيار الكهربائي، وتلافي الاحتجاجات الاجتماعية، والخوف من اندلاع ما يشبه «السترات الصفراء» التي كادت أن تطيح بالحكومة والعهد في 2019 و2020.

تمثل محاربة البطالة الأولوية الثانية للحكومة الجديدة التي تعتبر -وفق بورن- أن التخلص منها «في متناول اليد» باعتبار أن نسبتها هبطت إلى حوالي 7.3 في المائة، بعد أن كانت تحلق فوق 10 في المائة لسنوات. وشغلت بورن حقيبة العمل سابقاً، ولذا فإنها تعرف تفاصيل هذه المسألة عن ظهر قلب. لكن الإشكاليتين السابقتين لا تجعلان رئيسة الحكومة تنسى التحدي البيئوي الذي اعتبرت أنه يتطلب «استجابة جذرية وطارئة»، ما يعني إعادة النظر في أشكال الإنتاج والتنقل والسكن والاستهلاك. ووعدت بورن بإطلاق حملة تشاورية موسعة بدءاً من شهر سبتمبر (أيلول) القادم، للخلوص إلى بلورة مشروع رئيسي توجيهي يتناول البيئة والطاقة معاً.

في برنامج ماكرون الانتخابي، ورد التزام بإصلاح قانون التقاعد يرمي إلى رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً (مقابل 63 عاماً حالياً). ونظراً للعداء الذي واجهه، اعتبر كثيرون أنه كان سبباً في تراجع شعبيته وخسارته الأكثرية المطلقة. وكان السؤال المطروح قبل جلسة الأمس النيابية: هل ما زال مشروع ماكرون وارداً أم تم التخلي عنه؟ وجاء الجواب على لسان رئيسة الحكومة التي قالت إنه «يتعين على الفرنسيين أن يعملوا تدريجياً لفترات أطول» معتبرة أن فرنسا بحاجة إلى إعادة النظر في قانون التقاعد. بيد أن بورن رفضت الدخول في التفاصيل والأرقام، واكتفت بتقديم وعد القيام بالتشاور والتنسيق مع الشركاء الاجتماعيين (النقابات) ومع المجموعات البرلمانية.

وواجهت بورن انتقادات عنيفة من المعارضة؛ خصوصاً جناحيها المتشددين يميناً ويساراً. وقالت مارين لوبان إن تعيين بورن يعد «استفزازاً سياسياً»؛ لأن ماكرون لم يأخذ بعين الاعتبار نتائج الانتخابات التشريعية التي خسرها معسكره. وربطت لوبان تصرف كتلتها النيابية بأداء بورن، وبمدى أخذها بعين الاعتبار أولويات المجموعة وتعديلاتها، مهددة إياها بمواقف بالغة التشدد في حال التجاهل أو الاستعلاء. وهاجمت لوبان الرئيس ماكرون وما تعتبره دعاية سياسية، من خلال بث مقاطع فيديو على طريقة «نتفليكس» تبينه على أنه «منقذ العالم».

أما رئيسة مجموعة «فرنسا المتمردة» ماتيلد بانو، فقد أخذت على بورن «تهربها» من التصويت على الثقة، و«دوسها على تصويت الناخبين»، فضلاً عن تواطئها مع اليمين المتطرف. وأكدت أن مجموعتها «ستقوم بما انتدبت من أجله، أي أن تكون قوة معارضة».

ومن جانبه، اعتبر أوليفيه مارليكس، رئيس مجموعة نواب «الجمهوريون»، أنه لن «يتواطأ» مع الأكثرية النسبية؛ لكنه لن يعمد إلى تعطيل عمل الجمعية الوطنية، مع الإشارة إلى استعداد مجموعته للموافقة على عدد من النصوص التي تذهب في اتجاه تعزيز القدرة الشرائية، عن طريق العمل وإعادة بناء الآلة الصناعية، ومعاقبة المخلين بالأمن، وتعزيز النظام الصحي. وحث مارليكس رئيسة الحكومة على إطلاق إصلاحات عميقة، والتحلي بالشجاعة لخفض الإنفاق الحكومي، والتخلي عن رؤية توفير التمويل السهل (الذي يعني به الاستدانة).

تابعنا على تلجرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى