مقالات

خلفيات الرؤية الكيسنجرية للحرب

شعاع نيوز/ الكاتب عمر الغول: قبل الولوج لرؤية الدبلوماسي الأميركي المخضرم، هنري كيسنجر، الذي يقارب عمره المئة عام، وما زال حاضر الذهن وقادرا على الفعل السياسي والدبلوماسي والمعرفي من خلال مشاركاته في المنتديات الأميركية والدولية، وأيضا عبر نتاجاته الفكرية السياسية، التي بلغت حتى الآن 18 كتابا، اثنا عشر منها تتعلق بالدبلوماسية، وأعتقد أن من أهم كتبه، هي أطروحته للدكتوراة بعنوان “السلام، والشرعية والتوازن” والذي صدرت ترجمته العربية بعنوان “السلام المفقود”، والذي أفرده للحنكة السياسية لميترنيخ، وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية المجرية، المهندس الرئيسي لمؤتمر فيينا والذي عقد في الفترة من سبتمبر1814 إلى يونيو 1815 وما تمخض عنه من نتائج، والذي بنى ركائز السياسة الدولية لأربعة عقود آنذاك.

تولى كيسنجر مهام مركزية في إدارة الرئيسين نيكسون وفورد نهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي منها مستشار الأمن القومي الأميركي، ووزير الخارجية، ولعب دورا مهما في سياسة الانفراج الدولي مع الاتحاد السوفييتي السابق، وساهم بدور بارز في تجسير العلاقات الأميركية الصينية. وكان صاحب باع طويل في تفكيك المنظومة العربية الرسمية بعد حرب أكتوبر 1973. كما كانت له أدوار بارزة في العديد من الملفات الدولية منها، الملف الفيتنامي والانقلاب في تشيلي، وفي الانقلاب الأرجنتيني، وفي الملف الباكستاني البنغلاديشي وغيرها.

كيسنجر قدم خلال الفترة القليلة الماضية رؤية للحل السياسي للحرب في أوكرانيا التي مضى عليها حتى الآن مئة يوم تقوم على التالي: أولا حياد أوكرانيا، كونها تقع في دائرة النفوذ الروسي، ولأنها تقع في منطقة حساسة بين روسيا والغرب؛ ثانيا إخراج روسيا من دائرة العداء من قبل الولايات المتحدة والغرب، باعتبارها جزءا من أوروبا؛ ثالثا الحؤول دون التحالف الروسي الصيني، الذي يشكل تهديدا للغرب والمعادلة السياسية الدولية القائمة.

من الواضح أن هذا الاقتراح لم يجد آذاناً صاغية على الأقل في الإدارة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا والرئاسة الأوكرانية وفي أوساط القيادات الأوروبية الشرقية، بيد أنه قد يكون لقي القبول عند بعض الغرب الأوروبي، الذي لا يريد استعداء روسيا الاتحادية لأكثر من عامل أولا حاجتهم للغاز والنفط الروسي والقمح والشعير. فضلا عن الحجم الكبير للاستثمارات الأوروبية في روسيا، والذي يقارب الـ 400مليار يورو؛ ثانيا كون روسيا تقع داخل حدود القارة العجوز؛ ثالثا لأن اتساع رقعة الحرب تؤثر تأثيرا مباشرا على أوروبا كلها؛ رابعا لإدراك هذا البعض الأوروبي أخطار المخطط والسياسة الأميركية، وضمنيا يرفض الخيار الأميركي. رغم أنه تورط إلى حد بعيد في مستنقع سياسة البيت الأبيض.

كما أن بعض أوروبا الغربية بقدر ما يحرص على التحالف مع أميركا، بقدر ما يريد أن يخرج ويتحرر من تحت العباءة الأميركية، ويسعى البعض كألمانيا لتصفية حساب نتائج الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة. ومع ذلك استفادت تلك الدول من نتائج الحرب القائمة من زاوية إلغاء القيود المفروضة عليها في حقل التسلح، وزادت مباشرة حصة الإنتاج العسكري والتسلح في موازناتها، وهو ما يمنحها الفرصة لإعادة الاعتبار لترسانتها الحربية بالتوازي مع تطور وتعاظم قوتها الاقتصادية.

وأعتقد أن الدكتور الشرير، كما يصفه العديد من أصحاب الرأي في الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء، أراد من اقتراحه أن يستعيد دور ميترنيخ (أو ميترنيش) في القرن التاسع عشر. غير أن الظروف والمعادلات السياسية القائمة وواقع كيسنجر الراهن لا يسمح له بلعب ذلك الدور. مع أن اقتراحه للحل يخدم المصالح الحيوية الأميركية والأوروبية، كونه يطمح لإبقاء مقاليد السياسة الدولية بيد صانع القرار في واشنطن، والالتفاف في ذات الوقت على روسيا، ومنع التقارب الروسي الصيني. إلا أن عقارب الساعة تجاوزت الرؤية الكيسنجرية، كون إدارة بايدن انتهجت تكتيكا واستراتيجية مغايرة، وكل يوم يمر على الحرب في أوكرانيا، ومع ازدياد حجم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، التي تشرف عليها الإدارة الديمقراطية متعددة الأشكال والاتجاهات يشي بأن الصراع المحتدم يتجه نحو آفاق غير محمودة، ولوحة النظام العالمي الجديد تتمظهر كل يوم أكثر فأكثر. والمستقبل المنظور يملك الجواب على تداعياته.

تابعنا على تلجرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى