مقالات

تحرير تاريخ فلسطين يمهد لتحريرها

شعاع نيوز – الكاتب: باسم برهوم – قبل ان تسيطر الحركة الصهيونية على فلسطين وتقوم بتهويدها، سطت على تاريخها. وعملية السطو هذه جعلت مهمة أي باحث محايد وموضوعي صعبة. فتاريخ فلسطين القديم والحديث سيطر عليه الخطاب الاستشراقي الاستعماري. وخطاب الدراسات التوراتية، عبر تحويل التوراة الى كتاب تاريخ، والأسطورة الأدبية كما وكأنها حقيقة تاريخية. والهدف من الهيمنة على تاريخ فلسطين القديم هو ادعاء ملكية الأرض.

واستخدم الخطاب الاستشراقي، والدراسات التوراتية “الوعد الالهي” وعد الله لسيدنا إبراهيم بأن تكون ارض كنعان له ولذريته حتى يوم القيامة، استخدموا هذا الوعد وكأنه طابو ملكية لبني إسرائيل في كل الأزمان دون اي تحديد للحدود الجغرافية لهذا الوعد. عملية السطو على تاريخ فلسطين القديم، وان بدأت مبكرا على يد اتباع الكنيسة البروتستانتية في انجلترا ودول اوروبا الاخرى فإن القرن التاسع عشر كان حاسما ليس في سرقة التاريخ وحسب وإنما في تهويد الجغرافية عبر رسم خرائط لفلسطين تحمل الأسماء التوراتية للأماكن، انطلقا من فرضيات مخترعة أساسا.

وثمة أمر مهم هنا، ان السيطرة على تاريخ فلسطين، لا يهدف فقط للسيطرة على حاضر فلسطين، وحصر ملكية الأرض باليهود، وإنما ايضا لحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير على ارض وطنه الذي واصل وجوده عليه لآلاف السنين. وإذا كانت وثيقة “استقلال إسرائيل”، الذي أصدرها بن غوريون عام 1948 هي النص الأكثر تعبيرا عن سرقة تاريخ فلسطين، فإن قانون يهودية الدولة الذي اقره الكينست عام 2018، هو وثيقة حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، وحقه الطبيعي بهذه الأرض.

لقد كرست الدول الاستعمارية وبالتعاون مع الصهيونية العالمية طاقات وخبرات أكاديمية هائلة، وأموال طائلة، ومؤسسات، ومعاهد للدراسات التوراتية في أغلب الجامعات الغربية، بهدف الهيمنة على التاريخ الفلسطيني، فتم استخدام الجهود الاستشراقية الإمبريالية في هذا المجال لخدمة الأهداف الصهيونية. وفي عشرينيات القرن العشرين كان أحد أهم القرارات التي اتخذتها القيادة الصهيونية، هو تأسيس قسم تاريخ في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، ولاحقا في كافة الجامعات الإسرائيلية، تضم أهم المؤرخين الصهاينة ومن الدول الاوروبية والولايات المتحدة الأميركية، هدفه نسج رواية تاريخية صهيونية تدعي الملكية اليهودية لفلسطين مع تجاهل متعمد للتاريخ.

وربما من المهم الإشارة الى قصة حصلت عشية وصول لجنة بيل الملكية الى فلسطين عام 1937، لتحقق في أحداث ثورة الشعب الفلسطيني عام 1936، لنكتشف كيف كانت تتم عملية تلفيق التاريخ، فقد قام بن غوريون بزيارة لأهم المؤرخين الصهاينة وطلب منه ان يكتب عدة صفحات يشير فيها الى عدم انقطاع الوجود اليهودي في فلسطين من عام 70 ميلادي وحتى تاريخه، فأجاب المؤرخ هذا ممكن ولكن سنكون بحاجة لعقد من الزمان للقيام بذلك، فقال له بن غوريون: لا بد انك قد فهمتني بطريق خاطئة، انا اريد الصفحات بعد يومين، اكتب اي شيء المهم ان نعرض هذه الصفحات على اللجنة.

ومن ناحية أخرى وللتدليل كم هي مهمة الباحث في تاريخ فلسطين القديم صعبة، او بلغة أخرى تحرير التاريخ الفلسطيني من هيمنة الخطاب الاستشراقي الاستعماري، فإن بلد مثل الهند على سبيل المثال، وبعد 74 عاما من الاستقلال فإن المؤرخين الهنود يجدون صعوبة في كتابة تاريخ مستقل للهند بسبب هيمنة المنهج البريطاني وما كتبه الانجليز عن الهند، فما بالك تاريخ فلسطين الذي يواجه الدراسات التوراتية ايضا. فالباحث في تاريخ فلسطين القديم عليه مهمة تحرير التاريخ من الميثالوجيا، وعملية فرض الكتاب المقدس (التوراة) وكأنه كتاب تاريخ.

لقد جرت محاولات مهمة في العقد الأخير، سواء محاولات فلسطينية او من مؤرخين اجانب، يمكن اعتبارها انطلاقة او بداية. ولكن هذه المهمة يجب ان ترعاها وتقوم بها مؤسسات أكاديمية بالتعاون مع معاهد دولية ومؤرخين موضوعيين يقرون بأن لفلسطين تاريخها المستقل بعيدا عن الدراسات التوراتية. وكبداية لعله من المهم تأسيس معاهد تتبع عدد من الجامعات الفلسطينية، وفتح علاقات تعاون مع المعاهد النظيرة لها في عدد من الجامعات الأهم في العالم، وان يوفر لها المال بدعم محلي وعربي.

ولعله وجب التأكيد انه ليس من قبيل المبالغة أبدا ان نقول ان تحرير فلسطين من الهيمنة الصهيونية، والادعاء الغريب بملكية فلسطين وحصرها باليهود يمر بتحرير تاريخ فلسطين وجعله كما كان دائما تاريخا متعددا ومتنوعا بثقافاته وبأديانه، وألا يتم احتكار هذا التاريخ ومصادرته والهيمنة عليه. وإشكالية كتابة التاريخ الفلسطيني القديم تمتد ولو بشكل أقل للتاريخ الحديث وخاصة في الحقبة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بسبب عدم لجوء كثير من الباحثين الى المصادر الاولية، المتمثلة بالوثائق العثمانية والمحاكم الشرعية في المنطقة وبدلا من ذلك يستسهلون اللجوء لمصادر الاستشراق. عملية تحرير التاريخ الفلسطيني هي مسألة استراتيجية وتحتاج الى عمل جدي.


اقرأ\ي أيضاً| مخطط سموتريتش الاستيطاني هو تطهير عرقي ممنهج

تابعنا على تلجرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى