مقالات

عن نقل السفارة البريطانية للقدس

عن نقل السفارة البريطانية للقدس

بقلم: عاطف أبو سيف – الايام

سيظل عدم اتخاذ خطوات جدية ضد بريطانيا بوصفها الدولة الأكثر إجراماً بحق شعبنا بعد العصابات الصهيونية مبعثاً للمزيد من عدم أخذ العالم لنضالنا ولمطالبنا على محمل الجد. لا تبدو وعود رئيسة الوزراء البريطانية بنقل السفارة للقدس وقحة فقط، بل إنها إشارة حقيقية لحقيقة بريطانيا وحقيقة مواقفها.

هل جاءت السيدة الجديدة إلى 10 داوننغ ستريت بجديد؟ أنا سأقول، لا. لأن من يقول، نعم يكون نسي أكثر من مائة عام من جرائم بريطانيا بحق شعبنا، يكون نسي مساهمة بريطانيا في سرقة فلسطين. هي من لف البلاد في كيس وسلمه للصهيونية. علينا أن نتذكر هذا دائماً. لذلك فإن وعود تراس على وقاحتها ليست إلا استكمالاً لسياسة بريطانية معهودة بدأت ربما مع نهاية القرن التاسع عشر ضمن أهداف بريطانية صرفة.

المطلوب ليس فقط مواجهة هذه الخطوة بل إعادة النقاش إلى بداياته ووضع خطة وطنية لمحاكمة بريطانية ويجب ألا يقتصر الأمر على طلب الاعتذار عن وعد بلفور وعن الجرائم خلال فترة الاحتلال (1917-1948) بل أيضاً التعويض واتخاذ ما يلزم من مواقف وإجراءات من أجل تصويب الجريمة التاريخية التي تمت على يد بريطانيا وملوكها بحق شعبنا.

إن ما قامت به بريطانيا أمر لا يمكن أن يغتفر. جرائم ساهمت بشكل كبير في تسليم البلاد لغير أهلها. لنتذكر وعد بلفور، كان أول وثيقة استندت عليها الصهيونية في مأسسة عمليات سرقة البلاد ومن ثم جعل الأمر وكأنه صراع وحرب أهلية يتوجب على المجتمع الدولي التدخل من اجل إنهائها وبالتالي إيجاد مبرر وسند قانونيين لإقامة الوطن القومي المزعوم الذي وعد به بلفور. هذا كله تم ليس بتخطيط صهيوني فحسب بل بريطاني بامتياز.

بريطانيا المدفوعة بمصالحها الاستعمارية لم تفكر في شيء إلا في كيف يمكن لها أن تحقق ما تصبو إليه ولو كان على حساب شعب آخر. وربما من المفيد التذكير أن المستوطنين البريطانيين هم الذين أعملوا المذابح بحق سكان البلاد الأصلانيين في أميركا الشمالية، هم من سفك دماء القبائل أصحاب البلاد وهدموا حضارتهم وشردوهم في الغابات وقصوا غاباتهم بعد ذلك ليقيموا عالمهم الجديد.

طبعاً، ثمة شبه بين المشروع الصهيوني الدموي القائم على الإحلال والاستبدال وبين المشروع الاستيطاني الذي تمت وفقه سرقة العالم الجديد وتحويله إلى مجتمع غربي. لذلك ربما لا غرابة من قوة الدعم الأميركي الذي تتلقاه دولة الاحتلال إذ إن ثمة شبها كبيرا في المشروعين والتعاطف وجداني في الأساس بمعنى أنه أقوى من كل المحاميل المادية. أيضاً لا غرابة في دعم بريطانيا الذي لا يتزحزح للاحتلال وللقتل ولسرقة الأرض لأنها ذات الدولة التي ساهمت في سرقة العالم الجديد.

إن فكرة أميركا كدولة هي وليدة اختراع العقل البريطاني الاستعماري. بالضبط هكذا يبدو النظر إلى وجود دولة اليهود في فلسطين فهي براءة اختراع للعقل البريطاني. لذلك فإن بريطانيا رغم بعض المواقف التي تبدو محسنة منذ أواخر السبعينيات إلا أنها لم تخط أي خطوة حقيقية تجاه تعديل الجريمة التي اقترفتها بيديها وليس بيد الآخرين.

يبدو الأمر مثل نكتة قديمة. فمواقف بريطانيا التي تم تبنيها خلال وجودها في الاتحاد الأوروبي بعد إعلان البندقية الشهير وبعد ذلك إعلان برلين بسنوات لم تكن مواقف حقيقية بل كانت ضمن النسق الخاص لطبيعة تبني سياسات أوروبية مشتركة. هل يقترح هذا أن مجرد خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية الموحدة باتت أكثر حرة في التعبير عن مواقفها؟ ربما. رغم أن هذا لا يخبرنا الكثير عن بريطانيا وسياساتها. تذكروا كيف أن بريطانيا هي من دفعت باتجاه إقرار قرار التقسيم في العام 1947 بل إنها منحت بعض الدول الاستقلال قبل أشهر من التصويت الذي تم تأجيله حتى يتم تأمين ثلثي الأصوات المطلوبة، عندها قامت هذه الدول بالامتناع عن التصويت. لذلك فإن وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي لم يكبل يديها بل جعلها أكثر مقدرة على المناورة في تلك المواقف.

في المنظور التاريخي فإن بريطانيا أيضاً ارتكبت جرائم بشعة بحق شعبنا خلال احتلالها لفلسطين. لاحظوا كيف وقعنا في الفخ وصرنا في أدبياتنا نقول، «انتداب» وكأن المنتدب بريء لا علاقة له بالبلاد فهو يساعدها. أليس هذا هو المعنى الحقيقي للانتداب. ونحن في أدبياتنا نتفاخر بأنه انتداب فيما هو احتلال همجي لا يقل بشاعة عما نتعرض له، اليوم، من الاحتلال.

نعم، بريطانيا ارتكبت جرائم بحق شعبنا ومن حقنا أن نحاكمها أيضاً. لا يمكن غفران كل هذا التاريخ الأسود الذي مارسته بريطانيا بحق شعبنا وحتى لو تم لأسباب وسياقات مختلفة  فإن هذا يجب ألا يدفعنا للنسيان لأننا يجب أن نتذكر كل من شارك في الجريمة وكل من ساهم في تضييع البلاد ويجب ألا يعتقد هؤلاء أننا نسينا وأن قلبنا كبير ويمكن لنا أن نتعامل بكل هذا الود. الود لمن ود، ومن لا يودنا لا ود له.  

مرة أخرى، يجب عدم السكوت عن هذه المواقف البريطانية وعدم اعتبار الأمر مجرد نقل آخر للسفارة من تل أبيب إلى القدس، وحتى لو لم تتمكن تراس من تنفيذ وعودها لحلفائها فإن علينا أن نأخذ الأمر على أنه نقطة للانطلاق في نضال لمحاكمة الدولة الأكثر إجراماً بحق شعبنا بعد الصهيونية. هذا بحاجة لخطة وطنية شاملة يكون جوهرها التوجه للمحاكم كما تشمل تدخلات في الدبلوماسية العامة توجه للضغط على المواطنين البريطانيين. لسنا بحاجة لتعاطف أحد، نريد فقط أن يقول المجرم، هذه جريمتي ويقول، إن ثمة ضحية دفعت ثمناً غالياً ومؤلماً نتيجة سياساتي الإجرامية. هذا ما يجب فعله، فالأمر ليس مجرد محاولة نقل سفارة بل هو جريمة بريطانية عمرها أكثر من قرن تتم مواصلة الإصرار عليها بكل وقاحة وعدم اكتراث.

تابعنا على تلجرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى